فصل: تفسير الآيات (14- 15):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (14- 15):

{بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)}
قوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}
قال الأخفش: جعله هو البصيرة، كما تقول للرجل أنت حجة على نفسك.
وقال ابن عباس: بَصِيرَةٌ أي شاهد، وهو شهود جوارحه عليه: يداه بما بطش بهما، ورجلاه بما مشى عليهما، وعيناه بما أبصر بهما. والبصيرة: الشاهد. وأنشد الفراء:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة ** بمقعده أو منظر هو ناظره

يحاذر حتى يحسب الناس كلهم ** من الخوف لا تخفى عليهم سرائره

ودليل هذا التأويل من التنزيل قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24]. وجاء تأنيث البصيرة لان المراد بالإنسان ها هنا الجوارح، لأنها شاهدة على نفس الإنسان، فكأنه قال: بل الجوارح على نفس الإنسان بصيرة، قال معناه القتبي وغيره. وناس يقولون: هذه الهاء في قوله: بَصِيرَةٌ هي التي يسميها أهل الاعراب هاء المبالغة، كالهاء في قولهم: داهية وعلامة وراوية. وهو قول أبي عبيد. وقيل المراد بالبصيرة الكاتبان اللذان يكتبان ما يكون منه من خير أو شر، يدل عليه قوله تعالى: {وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ} فيمن جعل المعاذير الستور. وهو قول السدي والضحاك.
وقال بعض أهل التفسير: المعنى بل على الإنسان من نفسه بصيرة، أي شاهد فحذف حرف الجر. ويجوز أن يكون {بَصِيرَةٍ} نعتا لاسم مؤنث فيكون تقديره: بل الإنسان على نفسه عين بصيرة، وأنشد الفراء:
كأن على ذي العقل عينا بصيرة وقال الحسن في قوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} يعني بصير بعيوب غيره، جاهل بعيوب نفسه. {وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ}
أي ولو أرخى ستوره. والستر بلغة أهل اليمن: معذار، قاله الضحاك وقال الشاعر:
ولكنها ضنت بمنزل ساعة ** علينا وأطت فوقها بالمعاذر

قال الزجاج: المعاذر: الستور، والواحد معذار، أي وإن أرخى ستره، يريد أن يخفى عمله، فنفسه شاهدة عليه.
وقيل: أي ولو أعتذر فقال لم أفعل شيئا، لكان عليه من نفسه من يشهد عليه من جوارحه، فهو وإن اعتذر وجادل عن نفسه، فعليه شاهد يكذب عذره، قاله مجاهد وقتادة وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد وأبو العالية وعطاء والفراء والسدي أيضا ومقاتل. قال مقاتل: أي لو أدلى بعذر أو حجة لم ينفعه ذلك. نظيره قوله تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} [غافر: 52] وقوله: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] فالمعاذير على هذا: مأخوذ من العذر، قال الشاعر:
وإياك والامر الذي إن توسعت ** موارده ضاقت عليك المصادر

فما حسن أن يعذر المرء نفسه ** وليس له من سائر الناس عاذر

واعتذر رجل إلى إبراهيم النخعي فقال له: قد عذرتك غير معتذر، إن المعاذير يشوبها الكذب.
وقال ابن عباس: وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ أي لو تجرد من ثيابه. حكاه الماوردي. قلت: والأظهر أنه الأدلاء بالحجة والاعتذار من الذنب، ومنه قول النابغة:
ها إن ذي عذرة إلا تكن نفعت ** فإن صاحبها مشارك النكد

والدليل على هذا قوله تعالى في الكفار {وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] وقوله تعالى في المنافقين: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18].
وفي الصحيح أنه يقول: «يا رب آمنت بك وبكتابك وبرسولك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني بخير ما استطاع» الحديث. وقد تقدم في حم السجدة وغيرها. والمعاذير والمعاذر: جمع معذرة، ويقال: عذرته فيما صنع أعذره عذرا وعذرا، والاسم المعذرة والعذري، قال الشاعر:
إني حددت ولا عذري لمحدود

وكذلك العذرة وهي مثل الركبة والجلسة، قال النابغة:
ها إن تا عذرة إلا تكن نفعت ** فإن صاحبها قد تاه في البلد

وتضمنت هذه الآية خمس مسائل:
الأولى: قال القاضي أبو بكر بن العربي قوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ}: فيها دليل على قبول إقرار المرء على نفسه، لأنها بشهادة منه عليها، قال الله سبحانه وتعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24] ولا خلاف فيه، لأنه إخبار على وجه تنتفي التهمة عنه، لان العاقل لا يكذب على نفسه، وهي المسألة: وقد قال سبحانه في كتابه الكريم: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران: 81] ثم قال تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} [التوبة: 102] وهو في الآثار كثير، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها». فأما إقرار الغير على الغير بوارث أو دين فقال مالك: الامر المجتمع عليه عندنا في الرجل يهلك وله بنون، فيقول أحدهم: إن أبي قد أقر أن فلانا ابنه، أن ذلك النسب لا يثبت بشهادة إنسان واحد، ولا يجوز إقرار الذي أقر إلا على نفسه في حصته من مال أبيه، يعطى الذي شهد له قدر الدين الذي يصيبه من المال الذي في يده. قال مالك: وتفسير ذلك أن يهلك الرجل ويترك ابنين ويترك ستمائة دينار، ثم يشهد أحدهما بأن أباه الهالك أقر أن فلانا ابنه، فيكون على الذي شهد للذي استحق مائة دينار، وذلك نصف ميراث المستلحق لو لحق، وإن أقر له الآخر أخذ المائة الأخرى فاستكمل حقه وثبت نسبه. وهو أيضا بمنزلة المرأة تقر بالدين على أبيها أو على زوجها وينكر ذلك الورثة، فعليها أن تدفع إلى الذي أقرت له قدر الذي يصيبها من ذلك الدين لو ثبت على الورثة كلهم، إن كانت امرأة فورثت الثمن دفعت إلى الغريم ثمن دينه، وإن كانت ابنة ورثت النصف دفعت إلى الغريم نصف دينه، على حساب هذا يدفع إليه من أقر له من النساء.
الثالثة: لا يصح الإقرار إلا من مكلف، لكن بشرط ألا يكون محجورا عليه، لان الحجر يسقط قوله إن كان لحق نفسه، فإن كان لحق غيره كالمريض كان منه ساقط، ومنه جائز. وبيانه في مسائل الفقه. وللعبد حالتان في الإقرار: إحداهما في ابتدائه، ولا خلاف فيه على الوجه المتقدم. والثانية في انتهائه، وذلك مثل إبهام الإقرار، وله صور كثيرة وأمهاتها ست: الصورة الأولى: أن يقول له عندي شي، قال الشافعي: لو فسره بتمرة أو كسرة قبل منه. والذي تقتضيه أصولنا أنه لا يقبل إلا فيما له قدر، فإذا فسره به قبل منه وحلف عليه. الصورة الثانية: أن يفسر هذا بخمر أو خنزير أو ما لا يكون مالا في الشريعة: لم يقبل باتفاق ولو ساعده عليه المقر له. الصورة الثالثة: أن يفسره بمختلف فيه مثل جلد الميتة أو سرقين أو كلب، فإن الحاكم يحكم عليه في ذلك بما يراه من رد وإمضاء فإن رده لم يحكم عليه حاكم آخر غيره بشيء، لان الحكم قد نفذ بإبطاله، وقال بعض أصحاب الشافعي: يلزم الخمر والخنزير، وهو قول باطل.
وقال أبو حنيفة: إذا قال له علي شيء لم يقبل تفسيره إلا بمكيل أو موزون، لأنه لا يثبت في الذمة بنفسه إلا هما. وهذا ضعيف، فإن غيرهما يثبت في الذمة إذا وجب ذلك إجماعا. الصورة الرابعة: إذا قال له: عندي مال قبل تفسيره بما لا يكون مالا في العادة كالدرهم والدرهمين، ما لم يجئ من قرينة الحال ما يحكم عليه بأكثر منه. الصورة الخامسة: أن يقول له: عندي مال كثير أو عظيم، فقال الشافعي: يقبل في الحبة.
وقال أبو حنيفة: لا يقبل إلا في نصاب الزكاة.
وقال علماؤنا في ذلك أقوالا مختلفة، منها نصاب السرقة والزكاة والديه وأقله عندي نصاب السرقة، لأنه لا يبان عضو المسلم إلا في مال عظيم. وبه قال أكثر الحنفية. ومن يعجب فيتعجب لقول الليث بن سعد: إنه لا يقبل في أقل من اثنين وسبعين درهما. فقيل له: ومن أين تقول ذلك؟ قال: لان الله تعالى قال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} [التوبة: 25] وغزواته وسراياه كانت اثنتين وسبعين. وهذا لا يصح، لأنه أخرج حنينا منها، وكان حقه أن يقول يقبل في أحد وسبعين، وقد قال الله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب: 41]، وقال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ} [النساء: 114]، وقال: {وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} [الأحزاب: 68]. الصورة السادسة: إذا قال له: عندي عشرة أو مائة أو ألف، فإنه يفسرها بما شاء ويقبل منه، فإن قال ألف درهم أو مائة وعبد أو مائة وخمسون درهما فإنه يفسر المبهم ويقبل منه. وبه قال الشافعي: وقال أبو حنيفة: إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا كان تفسيرا، كقوله: مائة وخمسون درهما، لان الدرهم تفسير للخمسين، والخمسين تفسير للمائة.
وقال ابن خيران الإصطخري من أصحاب الشافعي: الدرهم لا يكون تفسيرا في المائة والخمسين إلا للخمسين خاصة ويفسر هو المائة بما شاء. المسألة الرابعة: قوله تعالى: {وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ} ومعناه لو اعتذر بعد الإقرار لم يقبل منه. وقد اختلف العلماء فيمن رجع بعد ما أقر في الحدود التي هي خالص حق الله، فقال أكثرهم منهم الشافعي وأبو حنيفة: يقبل رجوعه بعد الإقرار.
وقال به مالك في أحد قوليه، وقال في القول الآخر: لا يقبل إلا أن يذكر لرجوعه وجها صحيحا. والصحيح جواز الرجوع مطلقا، لما روى الأئمة منهم البخاري ومسلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رد المقر بالزنى مرارا أربعا كل مرة يعرض عنه، ولما شهد على نفسه أربع مرات دعاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: «أبك جنون» قال: لا. قال: «أحصنت» قال: نعم.
وفي حديث البخاري: «لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت».
وفي النسائي وأبي داود: حتى قال له في الخامسة: «أجامعتها» قال: نعم. قال: «حتى غاب ذلك منك في ذلك منها» قال: نعم. قال: «كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر». قال: نعم. ثم قال: «هل تدري ما الزنى» قال: نعم، أتيت منها حراما مثل ما يأتي الرجل من أهله حلالا. قال: «فما تريد مني»؟ قال: أريد أن تطهرني. قال: «فأمر به فرجم». قال الترمذي وأبو داود: فلما وجد مس الحجارة فر يشتد، فضربه رجل بلحي جمل، وضربه الناس حتى مات. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هلا تركتموه» وقال أبو داود والنسائي: ليتثبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأما لترك حد فلا. وهذا كله طريق للرجوع وتصريح بقبوله.
وفي قوله عليه السلام: «لعلك قبلت أو غمزت» إشارة إلى قول مالك: إنه يقبل رجوعه إذا ذكر وجها.
الخامسة: وهذا في الحر المالك لأمر نفسه، فأما العبد فإن إقراره لا يخلو من أحد قسمين: إما أن يقر على بدنه، أو على ما في يده وذمته، فإن أقر على ما في بدنه فيما فيه عقوبة من القتل فما دونه نفذ ذلك عليه.
وقال محمد بن الحسن: لا يقبل ذلك منه، لان بدنه مستغرق لحق السيد، وفي إقراره إتلاف حقوق السيد في بدنه، ودليلنا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أصاب من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله، فإن من يبدلنا صفحته نقم عليه الحد». المعنى: أن محل العقوبة أصل الخلقة، وهي الدمية في الآدمية، ولا حق للسيد فيها، وإنما حقه في الوصف والتبع، وهي المالية الطارئة عليه، ألا ترى أنه لو أقر بمال لم يقبل، حتى قال أبو حنيفة: إنه لو قال سرقت هذه السلعة أنه لم تقطع يده ويأخذها المقر له.
وقال علماؤنا: السلعة للسيد ويتبع العبد بقيمتها إذا عتق، لان مال العبد للسيد إجماعا، فلا يقبل قوله فيه ولا إقراره عليه، لا سيما وأبو حنيفة يقول: إن العبد لا ملك له ولا يصح أن يملك ولا يملك، ونحن وإن قلنا إنه يصح تملكه. ولكن جميع ما في يده لسيده بإجماع على القولين. والله أعلم.

.تفسير الآيات (16- 21):

{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)}
قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}
في الترمذي: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نزل عليه القرآن يحرك به لسانه، يريد أن يحفظه، فأنزل الله تبارك وتعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}.
قال: فكان يحرك به شفتيه. وحرك سفيان شفتيه. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح. ولفظ مسلم عن ابن جبير عن ابن عباس قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعالج من التنزيل شدة، كان يحرك شفتيه، فقال لي ابن عباس: أنا أحركهما كما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحركهما، فقال سعيد: أنا أحركهما كما كان ابن عباس يحركهما، فحرك شفتيه، فأنزل الله عز وجل: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قال جمعه في صدرك ثم تقرؤه {فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} قال فاستمع له وأنصت. ثم إن علينا أن نقرأه، قال: فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ذلك إذا أتاه جبريل عليهما السلام استمع، وإذا انطلق جبريل عليه السلام قرأه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما أقرأه، خرجه البخاري أيضا. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] وقد تقدم.
وقال عامر الشعبي: إنما كان يعجل بذكره إذا نزل عليه من حبه له، وحلاوته في لسانه، فنهى عن ذلك حتى يجتمع، لان بعضه مرتبط ببعض، وقيل: كان عليه السلام إذا نزل عليه الوحي حرك لسانه مع الوحي مخافة أن ينساه، فنزلت {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه: 114] ونزل: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى} [الأعلى: 6] ونزل: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ} قاله ابن عباس: {وقُرْآنَهُ} أي وقراءته عليك. والقراءة والقرآن في قول الفراء مصدران.
وقال قتادة: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي فاتبع شرائعه وأحكامه. وقوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ} أي تفسير ما فيه من الحدود والحلال والحرام، قاله قتادة.
وقيل: ثم إن علينا بيان ما فيه من الوعد والوعيد وتحقيقهما.
وقيل: أي إن علينا أن نبينه بلسانك. قوله تعالى: {كَلَّا} قال ابن عباس: أي إن أبا جهل لا يؤمن بتفسير القرآن وبيانه.
وقيل: أي {كَلَّا} لا يصلون ولا يزكون يريد كفار مكة. بَلْ تُحِبُّونَ أي بل تحبون يا كفار أهل مكة الْعاجِلَةَ أي الدار الدنيا والحياة فيها وَتَذَرُونَ أي تدعون الْآخِرَةَ والعمل لها.
وفي بعض التفسير قال: الآخرة الجنة. وقرأ أهل المدينة والكوفيون بَلْ تُحِبُّونَ وَتَذَرُونَ بالتاء فيهما على الخطاب واختاره أبو عبيد، قال: ولولا الكراهة لخلاف هؤلاء القراء لقرأتها بالياء، لذكر الإنسان قبل ذلك. الباقون بالياء على الخبر، وهو اختيار أبي حاتم، فمن قرأ بالياء فردا على قوله تعالى: {يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ} [القيامة: 13] وهو بمعنى الناس. ومن قرأ بالتاء فعلى أنه واجههم بالتقريع، لان ذلك أبلغ في المقصود، نظيره: {إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا} [الإنسان: 27].